من قلب مدينة الدشيرة الجهادية عمالة إنزكان أيتملول، حيث تنبض الأصالة الأمازيغية في تفاصيل الحياة اليومية، يسطع من جديد اسم الفنان المتعدد المواهب إبراهيم بطا، في عودة فنية قوية تعيد إلى الواجهة أحد أبرز الأسماء التي جمعت بين جمال الصورة وعمق المعنى.
فبعد مسيرة طويلة خلف الكواليس كمصمم ديكور وإكسسوارات، يسجّل بطا اليوم عودة لافتة إلى أضواء الكاميرا وخشبة المسرح، مستندًا إلى تجربة غنية صقلتها السنين، وإلى رؤية فنية عميقة تستمد روحها من التراث والإنسان في آن واحد. فمنذ مطلع الألفية الجديدة، كان ابراهيم بطا أحد العقول الخفية وراء عشرات الأعمال السينمائية والتلفزيونية المغربية، منها الأمازيغية والعربية وكذلك الأجنبية التي لاقت صدى واسعًا لدى الجمهور، ومن بينها، البرتقالة المرة، إلى الأبد، السيدة الحرة، أدور، السر القديم، تيگمي مقورن، البوز …. وقد استطاع بطا أن يحوّل الفضاءات إلى كائنات ناطقة تكمّل الحوار وتغني الصورة البصرية، ليصبح بحق مهندسًا بصريًا يُجيد الإنصات للمكان قبل أن ينطقه فنيًا.


وخلال سنة 2023، تبدأ مرحلة جديدة في مساره، إذ قرر العودة إلى التمثيل بعد غياب دام سنوات، حاملاً معه أدوات جديدة وتجربة أكثر نضجًا وعمقًا. وشارك كممثل في أعمال سينمائية مثل البوز، والفيلمين القصيرين، تاونزا، و أوال ن إخربان، مقدّمًا شخصيات إنسانية صادقة تنبض بالحياة وتعكس وعيه الاجتماعي والفكري، حيث يشتغل على التفاصيل الصغيرة التي تمنح الأداء صدقه وقوته، ليبرهن أن حضوره أمام الكاميرا لا يقل إبداعًا عن بصمته خلفها.
لكن إبراهيم بطا، ليس ابن الصدفة الفنية، بل هو نتاج مسار طويل بدأه منذ التسعينات في حضن جمعيات ثقافية رائدة مثل جمعية تامينوت، و أوسمان بعاصمة الفن مدينة الدشيرة، قبل أن يكون أحد مؤسسي فرقة تاكفاريناس المسرحية إلى جانب أسماء بارزة في المجال المسرحي والسينمائي، كحسن أزضوض المخرج المسرحي المتميز، وأحمد بايدو المخرج السينمائي، والممثل سعيد عادل “خيخون”، ومحمد أمعسول، فاطمة إرخا، وفاطمة ألبنسير. وقد قدّموا أعمالًا مسرحية خالدة مثل تنانايت ن جانطي، أراس، أمغار غوزمز أكنان، أمناي ن تيلاس التي نال عنها الجائزة الكبرى لمهرجان المسرح الفردي بتيزنيت سنة 2004، تلتها مسرحية أمسلي ن إفسي، التي حصدت الجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للمسرح الأمازيغي بأكادير سنة 2005.
و يؤمن ابراهيم بطا بأن المسرح ليس مجرد عرض فني، بل هو مختبر للهوية والذاكرة، لذلك اعتمد في تجربته على الدمج بين الرمزية الأمازيغية ومدارس الأداء الحديثة، خصوصًا المدرسة الجسدية الفرنسية لجاك لوكوك على يد أستاذه المخرج المسرحي حسن أزضوض، التي أدخل تقنيتها إلى المغرب الفنان محمد خميس، ما أضفى على أعماله لمسة كونية دون أن تفقد أصالتها المحلية.
إلى جانب ذلك، فإن تكوينه الأكاديمي في علم الاجتماع، تخصص الديناميات المجتمعية، من جامعة ابن زهر، منحه قدرة تحليلية نادرة جعلت فنه أكثر عمقًا وارتباطًا بالتحولات الاجتماعية والثقافية للمجتمع المغربي. إذ تنعكس خلفيته الفكرية بوضوح في المواضيع التي يشتغل عليها، والتي تمزج بين قضايا الهوية والحرية والإنسان والبيئة. هذا التداخل بين الفن والمعرفة جعله فنانًا مثقفًا يشتغل بعقل الباحث وقلب الفنان، فيؤسس لمشروع فني ذي بعد إنساني ورسالي.
ولم يقتصر عطاؤه على التمثيل أو الديكور، بل كان حاضرًا في المشهد الثقافي المحلي كمساهم فعال في تنظيم مجموعة من المهرجانات الكبرى نذكر على سبيل المثال مهرجان تيميتار، ومهرجان التسامح. فهو يؤمن بأن الثقافة هي الجسر الأقوى بين الشعوب، وأن الفن يمكن أن يكون أداة للوعي والنهضة.
يتقن إبراهيم بطا الأمازيغية والعربية والفرنسية، ما يتيح له التفاعل مع جمهور واسع والانفتاح على تجارب فنية متعددة، ليصبح نموذجًا للفنان الكوني الذي لا ينفصل عن جذوره.
في النهاية، يمكن القول إن بطا ليس مجرد ممثل أو مصمم ديكور، بل هو مشروع ثقافي متكامل يجمع بين الفكر والجمال، بين الذاكرة والخيال، وبين الفن والالتزام، اما عودته إلى الواجهة ليست حدثًا عابرًا، بل تأكيد على أن الإبداع الأصيل لا يذبل مع الزمن، بل يتجدد كلما وجد تربة الهوية وماء الشغف، ليواصل إشعاعه في خدمة الفن الأمازيغي والمغربي والإنساني في أوسع معانيه.
أكادير: إبراهيم فاضل



















































