«شظايا العارفين»… التصوف حين يُساءل الواقع بدل أن يهرب منه!

kechtv29 ديسمبر 2025 مشاهدة
«شظايا العارفين»… التصوف حين يُساءل الواقع بدل أن يهرب منه!

قراءة في ديوان الشاعر المغربي محمد أمين ماكامان.

في سياقٍ مغربيٍّ وعربيٍّ يتسم بتزايد القلق الوجودي، وتآكل الثقة في الشعارات الكبرى، واحتدام الأسئلة حول الهوية والمعنى، يطلّ ديوان «شظايا العارفين» للشاعر محمد أمين ماكامان بوصفه عملًا شعريًا يتجاوز البعد الجمالي، ليقترح التصوف باعتباره موقفًا نقديًا وأخلاقيًا من الواقع، لا ملاذًا هروبيًا منه.

قدّم محمد أمين ماكامان في ديوانه «شظايا العارفين» صوتًا شعريًا معاصرًا ينتمي إلى حقل التصوف، لا بوصفه انتماءً طقوسيًا أو تاريخيًا، بل باعتباره موقفًا فكريًا وأخلاقيًا ووجوديًا من العالم.

لا يكتب ماكامان التصوف من علٍ، ولا من مقام الشيخ العارف المكتمل، بل من موقع الإنسان المعاصر: المشروخ، المتردد، المحاصر بتناقضاته اليومية. ومن هنا، يبدو العنوان كاشفًا منذ الوهلة الأولى؛ فـالشظايا تحيل إلى الانكسار والتشظي، بينما العارفون يحيلون إلى مقام المعرفة والصفاء. هذا التوتر الدلالي هو مفتاح قراءة الديوان كله.

تصوف ما بعد اليقين

في «شظايا العارفين» لا نجد خطاب الكشف ولا نشوة الفناء، كما في التصوف الكلاسيكي، بل نجد تصوف السؤال والحيرة. العارف هنا لا يدّعي امتلاك الحقيقة، بل يعيشها كقلق دائم. فالعقل يُحاكم، والقلب يذوق، والعرفان لا يمنح الطمأنينة، بل يضاعف الإحساس بالمسؤولية.

هذا التحول يجعل الديوان قريبًا من هموم القارئ المعاصر، الذي لم يعد يبحث عن أجوبة نهائية، بقدر ما يبحث عن صدق التجربة. فالتصوف، في هذا العمل، ليس طريقًا مختصرًا للخلاص، بل مسارًا شاقًا للاعتراف بالقصور الإنساني.

بين ابن عربي وابن الفارض: حوار لا تبعية

يقيم الديوان علاقة حوارية واضحة مع التراث الصوفي، خصوصًا مع رمزين كبيرين: محيي الدين ابن عربي وابن الفارض، دون أن يقع في فخ الاستنساخ أو التبجيل غير النقدي.

مع ابن عربي، يلتقي ماكامان في مركزية الإنسان، وفي نقد العقل الأحادي، وفي الإيمان بتعدد وجوه الحقيقة. لكنه يفترق عنه في نقطة جوهرية: فبينما يبني ابن عربي نسقًا عرفانيًا شاملًا، يقوم على وحدة الوجود وتكامل الكشف، يكتب ماكامان من زمن الانكسار، حيث لم يعد النسق ممكنًا، ولا الكشف مضمونًا. إننا أمام عرفان يعيش داخل الهشاشة لا فوقها.

أما مع ابن الفارض، فيشترك الديوان في لغة الذوق والعشق، لكنه يبتعد عن النشوة المطلقة. فالعشق هنا ليس انخطافًا عن العالم، بل احتكاكًا مؤلمًا به. عشقٌ يعرف الفقر، والخذلان، والتناقض الاجتماعي، ويصرّ على البقاء داخل هذه الشروط بدل الهروب منها.

التصوف والأخلاق اليومية

من أبرز ما يمنح «شظايا العارفين» راهنيته، هو إدخال التصوف إلى المجال الأخلاقي والاجتماعي. فالنصوص لا تنشغل بالسماء وحدها، بل تنزل إلى تفاصيل الحياة اليومية: المواطن، العمل، الفقر، الخوف، الذنب الصغير، والتناقض بين الخطاب والممارسة.

العارف في هذا الديوان ليس معصومًا، بل إنسانًا عاديًا، قد يرفع شعارات نبيلة، ثم يكتشف هشاشته في أبسط الأفعال. وهنا يتحول التصوف إلى أداة مساءلة للذات، لا وسيلة لتبريرها.

بهذا المعنى، يعيد الديوان طرح سؤال جوهري:
هل يمكن للروح أن تدّعي الصفاء في واقع ملوّث أخلاقيًا؟

أهمية الديوان في المشهد الثقافي المغربي

تكمن أهمية «شظايا العارفين» في كونه يقدّم نموذجًا مختلفًا للشعر الصوفي في المغرب اليوم؛ شعر لا يكتفي بالاحتفاء بالتراث، ولا ينفصل عن قضايا الإنسان المعاصر. إنه ديوان:
• يعيد التصوف إلى قلب النقاش الفكري
• يربطه بالأخلاق والمسؤولية
• ويجعل الشعر ممارسة وعي لا زخرفة لغوية

في زمن الضجيج، يختار محمد أمين ماكامان نبرة هادئة، لكنها عميقة، تذكّر القارئ بأن أخطر ما نواجهه اليوم ليس فقدان اليقين، بل التعايش المريح مع التناقض.

«شظايا العارفين» ليس ديوان إجابات، بل ديوان أسئلة مؤلمة وضرورية، تضع القارئ أمام مرآته، وتدعوه إلى تصوفٍ يبدأ من الإنسان… وينتهي عند صدقه مع نفسه.

*محمد أمين ماكامان مهندس معماري ،شاعر و أديب مغربي،كاتب عام لمركز ذاكرة مراكش للتراث والثقافة.يشتغل على أسئلة الهوية والوعي والتصوف المعاصر من منظور إنساني وأخلاقي. في ديوانه «شظايا العارفين» يقارب التجربة الصوفية بوصفها ممارسة مساءلة لا خطاب يقين، حيث يتحوّل الشعر إلى مساحة للتفكير في الإنسان وتناقضاته اليومية.

IMG 20251229 WA0028

عاجل