مرة أخرى، يرحل الفنانون في صمتٍ موجع خصوصا بمنطقة سوس ماسة، لا يودعهم فيه سوى الجدران الباردة وأحلام لم تكتمل، كأن قدر الإبداع في هذا الوطن أن يزهر في العزلة ويموت في التجاهل. فبعد أيام من الحزن الذي أثاره رحيل الفنان الرايس صالح الباشا، الذي لم يكتشف موته إلا بعد مرور أيام داخل بيته وحيدًا بالدراركة، يتكرر المشهد المؤلم مع الفنان الكبير عمر الداحوس، أحد أعمدة الفن الأمازيغي الأصيل، الذي وجد جثة هامدة داخل منزله بمدينة إنزكان بعد يومين من وفاته دون أن يشعر به أحد. رحيل صامت يختصر مأساة فئة من المبدعين الذين منحوا الوطن أنغامهم ووهجهم، لكنهم لم يجدوا في المقابل سوى النسيان.
عمر الداحوس، ناي سوس ورفيق العواد، ولد سنة 1966 ببلدة إمتوڭة بين جبال سوس، وهناك بدأ يعزف للحياة من صوت الريح، يصنع نغمة من الألم ويحول أنين الطبيعة إلى موسيقى تنبض بالروح. كان فنانا بالفطرة، صدق ان الفن رسالة لا تجارة، وأن الموسيقى قادرة على مداواة الجراح التي لا تُرى.
تنقل بين أكادير وتارودانت، والتحق بفرقة تاروا ن سيدي حماد أوموسى، قبل ان يستقر في مراكش، حيث كان يعزف في ساحة جامع الفنا للناس وللسماء، في لحظات امتزج فيها الإبداع بالعطاء المجاني. كان نايه يسكن خلف أصوات كبار الفنانين يشاركهم مجد الأغنية الأمازيغية دون أن يذكر اسمه على الأغلفة التي اصدرتها بعض استديوهات التسجيل ، لأن الأضواء في هذا الوطن تسلط على الواجهة وتطفأ عمن يصنع العمق.
عاش عمر بسيطا، متواضعا، نقيا كنايه، ولم يمد يده لأحد، لكنه كان يحمل في صمته وجع فنان يعرف أن الوطن لا يحفظ الجميل إلا متأخرا. وعندما توقف نايه عن العزف، لم يسمع أحد الصمت الذي تركه خلفه إلا بعد يومين. يومان كان جسده فيها يرقد وحيدًا، كأن الموت أيضا لم يجد من يشاركه الحزن. كما رحل صالح الباشا قبله، يحمل في صدره خنجر التجاهل ذاته، يرحل الفنانون تباعًا بلا ضوء ولا صوت ولا سؤال. إنها ليست مصادفة، بل علامة صارخة على واقع فني مأزوم، تختزل فيه حياة المبدعين في لحظات عطاء، ثم يتركون يواجهون قسوة العيش والمصير وحدهم.
التهميش ليس قدَرا طبيعيًا، بل سياسة صمت طويلة مارستها مؤسسات ووسائل إعلام ووزارات لم تضع الفنان في مكانته الحقيقية. كم من فنانٍ أمازيغيٍ يعيش اليوم موتًا بطيئًا في ظل الإقصاء، بلا تغطية إعلامية، بلا حماية اجتماعية، بلا اعترافٍ مستحق. يُستدعى ليُطرب المهرجانات ثم يُنسى بعد التصفيق، وكأن الفن عندنا مؤقتٌ بقدر الحاجة لا بقدر القيمة. إن رحيل عمر الداحوس ليس فقط فقدانًا لصوتٍ موسيقيٍ فريد، بل صفعة في وجه الذاكرة التي تصر على نسيان من صنعوا جمالها. رحل كما عاش، في صمتٍ نبيلٍ وكرامةٍ مؤلمة، رحل وهو يعلم أن الناي الذي حمله عمرًا لن يجد من يسمع نغمة الوداع الأخيرة.
ورغم ذلك، سيبقى صوته شاهدًا على أن الإبداع الأمازيغي لا يموت، وأن الفنان الحقيقي يخلّد نفسه حتى حين يتجاهله الجميع. رحم الله عمر الداحوس وصالح الباشا، ورحم كل فنانٍ رحل بصمتٍ لأننا لم نعرف كيف نصغي له وهو حي. سيظل رحيلهم مرآةً قاسيةً تعكس حقيقتنا: أننا نحب الفنانين عندما يعزفون لنا، ونبكيهم فقط حين يعزف الصمت مكانهم.
الدشيرة : إبراهيم فاضل



















































