في الوقت الذي تسعى فيه المدن المغربية إلى استعادة جمالية فضاءاتها الحضرية وتنظيم مشاهدها البصرية بما يليق بصورة المغرب المتجدد، تعيش مدينة شيشاوة وضعا مغايرا؛ إذ تحول الفضاء العام فيها إلى ما يشبه معرضا مفتوحا للوحات الإشهارية العشوائية، حيث يمكن لأي شخص أن يضع ما يشاء من لوحات، كيفما شاء وأينما شاء، دون حسيب أو رقيب.
يكفي أن تتجول في شوارع المدينة لتدرك حجم الفوضى: لوحات ضخمة تغطي الأرصفة، أخرى مثبتة على أعمدة الكهرباء أو إشارات المرور، وثالثة تحتل ممرات الراجلين دون أدنى مراعاة لحق العبور أو سلامة المواطنين. والنتيجة واضحة: تشويه بصري مزمن، اختناق عمراني، وتهديد مباشر لسلامة المارة.
هذه الظاهرة لا يمكن اختزالها في مجرد تجاوزات فردية، بل تعكس خللا عميقا في منظومة تدبير الملك العمومي، وضعفا في تطبيق المقتضيات القانونية التي تؤطر الإشهار في الشوارع. فالدوريات الصادرة عن وزارة الداخلية بخصوص استغلال الملك العمومي، والمذكرات التنظيمية الخاصة بالإعلانات الإشهارية تحدد بشكل دقيق الشروط الواجب احترامها: من ضرورة الحصول على رخصة مسبقة، إلى تحديد المواقع والمسافات والقياسات، ضمانا لجمالية المدينة وحماية لسلامة المواطنين.
لكن في شيشاوة، يبدو أن هذه النصوص القانونية تبقى حبرا على ورق، في غياب مراقبة فعلية أو تنسيق مؤسساتي بين المصالح الجماعية والسلطات المحلية. والمحصلة، فضاء عام مشوه ومهدد، ومدينة تفقد تدريجيا هويتها البصرية لصالح فوضى الإعلانات التجارية.
في تجارب سابقة بعدد من المدن المغربية الكبرى مثل طنجة والرباط، بادرت السلطات إلى شن حملات لإزالة اللوحات العشوائية وإعادة تنظيم القطاع وفق خرائط حضرية مضبوطة، إدراكا منها لخطورة ترك الشوارع نهبا للعشوائية. أما في شيشاوة، فلا يزال المواطنون ينتظرون خطوة مماثلة تنقذ المدينة من هذا التلوث البصري الذي يتسلل بصمت إلى كل زاوية.
ويؤكد فاعلون جمعويون أن الخطر لا يقتصر على الجانب الجمالي فحسب، بل يمتد إلى الجانب الأمني أيضا، إذ إن بعض اللوحات تثبت بطريقة مرتجلة قد تؤدي إلى سقوطها في أي لحظة، خاصة أثناء التساقطات أو الرياح القوية. كما أن وضعها فوق الأرصفة يجبر المارة على النزول إلى الطريق، مما يرفع من احتمالات حوادث السير، خصوصا بالنسبة للأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة.
ويرى مهتمون بالشأن المحلي أن الحل يبدأ من مراجعة جذرية لخريطة الإشهار بالمدينة، وإرساء آليات واضحة لتحديد المواقع المسموح بها، مع تطبيق صارم للقانون في حق المخالفين، وتبسيط مساطر الترخيص حتى لا يتحول التنظيم إلى وسيلة للريع أو الزبونية. كما يقترح إشراك المجتمع المدني والمقاولات المحلية في صياغة رؤية مشتركة توازن بين الحق في الإشهار وحق المواطن في فضاء عمومي منظم ونظيف.
إن ما يحدث في شيشاوة اليوم ليس مجرد فوضى إدارية عابرة، بل هو اختبار حقيقي لمدى احترامنا للمدينة كمجال مشترك، ولقدرتنا على جعل الجمال والنظام جزءا من ثقافتنا الحضرية. فالمطلوب ليس منع الإشهار، بل ترويضه ضمن حدود الذوق والقانون، حتى لا يظل الفضاء العام مسرحا مفتوحا للعشوائية، بل فضاء يعبر عن هوية المدينة ورقيها.
في الاخير، يبقى الأمل معقودا على تدخل الجهات الوصية، وفي مقدمتها السلطات الإقليمية والجماعة الترابية، لإطلاق حملة شاملة لتنظيم الإعلانات واللوحات الإشهارية، وتحرير الأرصفة والممرات، حفاظا على سلامة المواطنين وجمالية المدينة. لأن الحق في مدينة جميلة ومنظمة هو حق أساسي لا يقل أهمية عن أي حق آخر في الحياة الحضرية الكريمة.









