في مثل هذا اليوم، 11 نونبر من سنة 1989، غيّب الموت واحدا من أعمدة الفن الأمازيغي الأصيل، وهرما من أهرامات الكلمة واللحن والموقف، الفنان الكبير الرايس الحاج محمد ألبنسير، الذي ودّع الدنيا في مدينة الدار البيضاء بعد مسيرة فنية نضالية استثنائية، تركت بصمة لا تُمحى في ذاكرة الشعب الأمازيغي والمغربي قاطبة. تحل اليوم ذكرى رحيله، لتعيد إلينا صوتا صدح بالحقيقة في زمن الصمت، واسما ظلّ حاضرا رغم الغياب، رمزا للفن الملتزم والكلمة الصادقة والموقف الشريف.
ولد الرايس أجحود الحاج محمد ألبنسير، سنة 1937 بدوار تامسولت، بجماعة تيمزگديوين دائرة إمي نتانوت إقليم شيشاوة، في بيئة قروية بسيطة ولكنها غنية بثقافة السوسيين العريقة، حيث اختلطت الحكمة الشعبية بالشعر والأنغام، وحيث كانت الروايس مدرسةً لتعليم الهوية قبل أن تكون مجالا للغناء. منذ طفولته، أبدى ميولًا قوية نحو الموسيقى والشعر، وبدأ يردد قصائد شعراء الروايس، متأثرا بأسماء لامعة من جيله الأول، قبل أن يشق طريقه بموهبة فريدة وصوت مهيب سيحفر لنفسه مكانًا خاصًا في وجدان المغاربة.
تميّز الدمسيري عن غيره من الروايس بأنه لم يكن مجرد فنان يغني، بل كان شاعرا فيلسوفا ومفكرا شعبيا يحمل كلماته رسائل إنسانية ووطنية عميقة. كانت أغانيه تتجاوز حدود الطرب إلى الوعي، وإلى مقاومة الظلم ونقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية بجرأة نادرة في زمن لم يكن فيه التعبير عن الرأي بالأمر السهل. بصوته الأصيل وربابه الحزين، رسم الرايس ألبنسير خريطة فنية جعلت من الأغنية الأمازيغية وسيلة للتعبير عن هموم الناس وآمالهم، عن الفقر والكرامة، عن الحرية والهوية، وعن الإنسان الأمازيغي الذي ظل متمسكا بأرضه وثقافته رغم العواصف.
كان المرحوم الحاج محمد ألبنسير مدرسة قائمة بذاتها، جمع بين الأصالة والوعي، بين الشعر والغناء، بين الإبداع والموقف. لم يساوم يوما على مبادئه، ولم يجعل من فنه سلعة للمديح أو التملق، بل ظلّ وفيّا لرسالته حتى آخر نفس. حمل همّ الإنسان الأمازيغي والمغربي بكل أطيافه، فغنى للفلاح والعامل، للمرأة المكافحة، وللأرض التي تعطي ولا تخون. كان يرى في الفن رسالة سامية قبل أن يكون وسيلة للشهرة أو الثراء، ولهذا ظلّ محترما في كل بيت، محبوبا من الجمهور، ومهابا من السلطة أحيانا، لما في كلماته من صراحة وجسارة.

استطاع أن يجعل من الشعر الأمازيغي وسيلة للتنوير الشعبي، حيث تداخل في قصائده الحسّ الإنساني مع النقد الاجتماعي، وتجلّت فيها روح المقاومة والإيمان بالعدل والحق.
لم يكن الرايس محمد ألبنسير فنانا معزولا عن قضايا عصره، بل كان صوتا مدويا ضد الفساد والظلم والتهميش. واجه الإقصاء بصموده، وواجه الصمت بالكلمة، وواجه النسيان بالإبداع. عانى كثيرا من التضييق، لكنه لم يبدّل قناعته، بل ظلّ يغني من أجل كرامة الإنسان وحرية الكلمة، حتى أصبح رمزا للفن المقاوم ومرجعا لكل من جاء بعده من الفنانين.
ورغم أن الموت اختطفه مبكرا، فإن إرثه الفني ما يزال حاضرا بقوة. أكثر من ثلاثين سنة مرت على رحيله، وصوته ما زال يملأ الفضاءات، وأشعاره ما زالت تلهب القلوب وتوقظ الضمائر. كلما استمعنا إليه، شعرنا بأننا أمام فنان لم يمت، بل تحول إلى ذاكرة حية تختزل مسيرة أمة بأكملها. لقد ترك خلفه تراثا غنيا من التسجيلات والقصائد التي تُدرّس اليوم في معاهد الموسيقى، وتتداول بين عشاق الفن الأمازيغي كوثائق نادرة لجيل حمل مشعل الكلمة الحرة.
تحل ذكرى رحيل الرايس محمد ألبنسير، لتذكّرنا بأن الفنان الحقيقي لا يموت، بل يخلّد نفسه بما قدّمه من صدق ونبل وعطاء. هو الرايس الذي غنّى للكرامة وهو في الفقر، وغنّى للحب وهو في الغربة، وغنّى للوطن وهو في الألم. كانت كلماته مرآة لمجتمعه، وصوته نداء للوعي، وموسيقاه دعوة للتأمل والتغيير.
رحم الله الرايس الحاج محمد ألبنسير، رمز الصدق والإبداع والكرامة، الذي أثبت أن الفن الأمازيغي ليس مجرد غناء شعبي، بل هو فلسفة حياة، وذاكرة شعب لا ينسى من أحبّه وخدم قضاياه. في ذكراه اليوم، نقف احتراما لهذه القامة الشامخة التي علمتنا أن الكلمة الصادقة أقوى من كل سلاح، وأن الفن الأصيل لا يشيخ، بل يزداد خلودًا مع الزمن.
أكادير: إبراهيم فاضل




















































