في إطار الدورة التاسعة لمهرجان الملحون والأغنية الوطنية التي أُقيمت بين 22 و26 أكتوبر 2024، أصدر الأستاذ أنس الملحوني كتابًا يتناول سيرة الفنان المبدع أحمد الباهري، الملقب بـ “احميدة”. وقد حمل الكتاب عنوان: “احميدة الباهري… رحلة نغم: فارس من ذاكرة الأغنية الغيوانية – سيرة فنية 1972-2016”. يتناول الكتاب حياة هذا الفنان الغني بالإنجازات، الذي كان له دور بارز في تطوير الموسيقى الغيوانية في المغرب، ويُعد وثيقة مرجعية هامة في توثيق هذا التراث الفني.
يأتي الكتاب في 288 صفحة من القطع المتوسط، وتم طبعه في المطبعة الوطنية بمراكش، بدعم من الدكتور محمد الكنيديري رئيس جمعية الأطلس الكبير. وهو يعد أول عمل موسوعي يوثق حياة الفنان أحمد الباهري، وهو عمل كان غائبًا إلى حد كبير عن الساحة الثقافية المغربية رغم إنجازاته المتعددة في مجال الموسيقى والغناء. وفي مقدمة الكتاب، يشير الملحوني إلى عدم التوثيق الكافي لهذا الفنان رغم مشاركته الفاعلة في العديد من المشاريع الفنية البارزة، مما دفعه لتوثيق هذه السيرة في كتاب يسد هذا الفراغ.
وتميز كتاب “احميدة الباهري “رحلة نغم” بمنهجية التوثيق الدقيقة والموثوقة. فقد اعتمد المؤلف على الحوارات الشخصية مع الفنان أحمد الباهري التي جمعتهما عبر سنوات عديدة، بالإضافة إلى جمع معلومات من خلال جلسات إذاعية وبرامج ثقافية شارك فيها الفنان. كما قام الملحوني بتوثيق الإسهامات الفنية المتنوعة للباهري، مثل عزفه على آلات موسيقية متعددة (البانجو، القيثارة، المندولين، العود، والبزق)، وشاركته في أعمال موسيقية وغنائية عديدة، بما في ذلك السيتكومات، الأفلام السينمائية، والبرامج الإذاعية.
من خلال الكتاب، يعرض الملحوني بشكل موسع مفهوم “الظاهرة الغيوانية”، تلك الحركة الموسيقية التي ظهرت في السبعينات من القرن الماضي وكانت رد فعل على التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها المغرب بعد الاستقلال. وركز الملحوني في دراسته على دور “ناس الغيوان”، و”جيل جيلالة”، وبعض المجموعات الأخرى التي ساهم فيها الباهري بشكل مباشر، مثل “طيور الغربة” و”لمشاهب”. وقد تناول هذه المجموعات في سياقها الثقافي، الاجتماعي والسياسي، محاولًا توضيح العلاقة العميقة بين هذه الفرق والأنماط الموسيقية التقليدية المغربية مثل فن الملحون والموسيقى الكناوية، بالإضافة إلى تناول دور المسرح في تطور الأغنية الغيوانية.
ولا يقتصر دور الفنان أحمد الباهري على كونه عازفًا محترفًا فقط، بل كان له تأثير عميق في تطور الموسيقى الغيوانية. بفضل مهاراته العديدة، حيث أسهم الباهري في إثراء المشهد الموسيقي المغربي، سواء من خلال مشاركته في التلحين والغناء، أو من خلال مشاركته في الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي جمعت بين التراث الموسيقي المغربي والفن المعاصر. كما كانت له بصمة واضحة في ابتكار وصياغة موسيقى لأعمال إشهارية، حيث فازت بعض أعماله بجوائز مرموقة، مثل الجائزة الأولى في مهرجان كان الدولي للإشهار عام 1984.
واستعمل الملحوني في كتابه عدة أدوات بحثية تساهم في إضفاء طابع علمي توثيقي على السيرة الفنية لأحمد الباهري، أبرزها الحوارات الشخصية، التوثيق التاريخي، وتحليل الظاهرة الغيوانية ضمن السياق الاجتماعي والثقافي الذي ظهرت فيه. وقد قدم الملحوني عملًا توثيقيًا ليس فقط لأحمد الباهري كفنان، بل لمرحلة تاريخية وثقافية في المغرب ساهم فيها هذا الفنان إلى جانب آخرين في تشكيل جزء من الذاكرة الموسيقية المغربية المعاصرة.
هذا، ويعد كتاب “احميدة الباهري… رحلة نغم” للأستاذ أنس الملحوني وثيقة هامة لفهم تطور الأغنية الغيوانية ومساهمات الفنان أحمد الباهري فيها. ويُظهر هذا الكتاب كيف أن الباهري، بتعدد مواهبه الفنية، قد أسهم بشكل ملحوظ في توسيع أفق الفن المغربي، وهو جهد توثيقي يستحق التقدير في الحفاظ على ذاكرة الفن المغربي وتجارب كبار المبدعين.