محمد خلوقي
حين تمزق نسخ القران على الملأ، او يحرق علم الوطن! او يتم الاستهزاء والسخرية بشخصية دينية او سياسية!! تقوم الدنيا ولا تقعد، حسب مكانة الحدث وحساسيته.. وحين تسأل عن الغاية من هذه الردود والاحتجاجات، تجد الجواب على اختلاف الشرائح والتيارات والمشارب والاتجاهات ان الامر يتعلق بإهانة ( الرمز ) / او ( النموذج ) / او ( المرجع ) او ( القائد ).. وتتعدد الصفات والنعوت، ولكنها تتفق في أن صورةَ أونموذجا قد تم ترصُّده بقصدية لغاية النيل والحط من قيمته.
اذن ما الفرق بين هذا المشهد، والمشهد الذي تداولته هذه الايام المواقع التواصلية بخصوص تعرض رجل تعليم بمنطقة ما بالمغرب، باهانات لا يقبلها لا العرف ولا الأخلاق ولا الدين ولا القانون، بل الخطر المخيف هي واقعة قتل استاذة من طرف أحد طلابها ؟؟!!.
اعتقد ان القراءة لهذه الإشارة ذات الحمولات المتعددة والمترابطة، سأجملها فيما يلي :
- ١- ان الوطن حين تهان فيه رموزه الدينية والفكرية والوطنية والتربوية ..ويقف مثقفوه مبحوحي الأصوات، أو بفتات من الردود والاحتجاجات الرمزية، فهذا يعني انهم في لحظة صراع وانكسار، و احتضار، وتبلد وتكلس في الاحساس، وخور في المواقف، وهي طامة لا يخير فيه المرء الغيور.
٢- أن الساهرين على الشأن التربوي والتعليمي بالمغرب، صاروا مثل كراكيز غير فاعلة، أو مبدعة تحركها أيادي خفية، وربما ان السبب قد يرجع الى ان هذه الفئة صارت فاقدة لحريتها الذاتية في الحركة والفعل، أو بسب خطأ في التوجيه نحو هذه المهمة، أو بسبب نقص وضعف في الشخصية والتكوين، والمؤسف ان قوما من المرتزقة من موظفين خانعين راكعين منفذين قد دخلوا الى فضاء هذا المكان دون وعيهم بالمسؤولية أو علمهم بمكانة وقدسية الفضاء .. فكانوا كأدوات طيِّعة توظفها، وتسيرها، وتتحكم فيها جهات ما، لها حساباتها ومصالحها الشخصية و المادية .
٣- ان رجل التعليم قد عزل نفسه عن المحيط الجديد، نقابيا ومعرفيا وتواصليا، وطلب النجاة لنفسه دون غيره، ولَم يعلم بأن المحيط من حوله يتبدل بسرعة :
فأصدقاء العمل لم تعد تجمعهم نفس القيم والغيرة، و المتعلمين هم ضحايا توجيه وتربية هجينة، كما ان تقنيات التواصل أصبحت أسرع من لمح البصر، و الأمراض النفسية للمجتمع في تزايد .. و المسكين جالس في محرابه يتضرع ويصلي ..وينتظر الفرج والنجاة الفردية .
٣-ان رجال التعليم قد تفرقوا الى شيع وطوائف ونقابات وجمعيات ،واندسّ بينهم المرتزقةُ والوصوليون، وقدموا التعليم ورجاله هدية الافتراس المادي والمعنوي الى من يهمهم الامر.
وحين نأى رجل التعليم بنفسه عن قوة الاقتراح والحل، ولَم يركب مركب الشجب والرفض والممانعة للمكائد والدسائس، بكل ما قد يترتب عن ذلك من تبعات مادية ونضالية .. فكانت النهاية ان اعتبر أشبه بآلة يتم وضعها داخل حجرة صغيرة ومعزولة، تُخرج أصواتا بلهاء وتُسمع- الى من بهم في البدء علة الصمم -معزوفة نشازا..
هكذا أصبح المسكين مثل كركوزة تتحرك باوامر، و تكتب طلاسيم غير مفهومة سواء باللغة الام المستضعفة، او بلغة زوجات الاب المستقويات .
٤-كما انه جعل غايته محدودة -من وراء هذه المهمة -في كسب رزقه المادي، وتلبية احتياجاته الحياتية، دون ان يعرف ان غاية البقاء النافع ليس في اشباع حاجيات البطن؛ بل الاصح في هذه المهمة ان يكون له تميز في سلوك نقي، و عقل وازن، وفاعل في احداث التغيير والغرس المفيد في المجال الذي ينتمي اليه وهو التربية والتعليم، ولعمري فهذا جزء من مهمته ووظيفته، والتي من المفترض ان يكون قد جاء اليها عن قناعة وحب .
٥– ان القوانين العقابية التي تقرها القوانين الوضعية يتم التعامل بها حسب وضعية الرمز ومكانته، ومنها ما يكون شكليا فقط كما هو الامر لرمزية المعلم او الفقيه او المناضل، فلا تتجاوز العقوبة اشكالا غريبة من التوبيخ والتحذير والشجب تحت عناوين تراعي وتخدم وضع المعتدي اكتر من المعتدى عليه مثلا كشعار ( المدرسة تربي ولا تعاقب )- ( الأستاذة هادية وليست قاضية ) – (القوة هي العفو عند المقدرة )، وقس على ذلك من مثل هذه الشعارات التي دبجتها اقلام الأدباء في مقام غير هذا المقام، وهذا التعطيل للعقاب الشامل وغير المنتقى، هو جزء من سياسة عامة، يتم فيها تمتيع الضالين والمنحرفين والفاسدين بتخفيضات عقابية و بصكوك من الغفران والتسامح تحت شعار ( الوطن غفور رحيم / وعفى الله عما سلف / وفِي الكأس شوائب تحتاج وقتا لتنقيتها )، ولا يحتاج الامر كثرة التقصي و الاستدلال، اذ يكفي الرجوع الى مقارنة بين وضع الضحية والمجرم في احكام العدالة، ذلك ان اصحاب السرقة والاعتداء الجسدي والاغتصاب ونهب المال العام، وما الى ذلك تجتمع حولهم المنظمات الحقوقية ( العقوقية) للدفاع عما يجب ان يتمتعوا به من الناحية الانسانية، فتضمن لهم الدولة في السجن الاكل والشرب والإقامة حسب مكانة الفاسد وحصانته المادية، ويحكم عليه بالسجن مع أمل يتحول فيما بعد الى يقين في إخراجه من حبسه بتخريجات متعددة، وحين يخرج يستأسد اكثر، وقد يرتكب جرما اخبيه وأشنع، فيسقط على اثره المزيد من الضحايا الجدد، ولا يبالي بدخوله السجن مرة اخرى، لانه يعلم ان ضروريات البقاء والعيش، مكفولة له في هذا السجن، مع انتظاره لعفو اخر، والغريب ان الشعب هو الذي ينفق من جيوب مواطنيه على هؤلاء الضالين والمنحرفين والفاسدين الذين استنفذوا كل حظوظ صلاحهم وإصلاحهم، والصحيح ان إنفاق المال العام يجب ان يستفيد منه الصالح لا الطالح .
اما الضحية/ المُعتدى عليه فلا يلوي الا على حق صغير لا يذكر .. فيتوغل فيه الخوف، ويفقد الأمل في الأمن والسلم والطمأنينة او قد يكفر بكل قيم العدل والعدالة .
واعتقد في هذا السياق انه إذا لم يتم تفعيل العدالة بكل بنودها حماية لهذا الرمز (رجل التعليم او غيره) فان الاهانة والمهانة والضرب والجرح والسرقة والاغتصاب والقتل والسحب وكل سلوكات التعسف ستبقى مستمرة .
واما بخصوص الحادثة ( تعنيف رجل تعليم وقتل استاذة بريئة ) فهي واقعة ليست معزولة عن سياقها القيمي والتربوي والتعليمي والسياسي العام للمجتمع ككل .. وانعكاسات ذلك ترى جلية، في كون الانحرافات والسرقات والمضايقات اصبحت تعج بها الشوارع والبيوت والمؤسسات والوزارات .. وقليل من يدق بإصرار وإلحاح ناقوس هذا الطوفان الذي تعالت أمواجه ..
بقلم محمد خلوقي
اكتشاف المزيد من كِشـ تيفي - Kech TV
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.